|
* المقدمة |
| في عام 1958 ميلادية, اكتشف العلماء وجود بكتيريا حية خاملة في حبوب حنطة بإناء كان مدفوناً في مقبرة فرعونية منذ مايزيد عن 4,000 سنة مضت, ويبدو أن هذا الاكتشاف قد أكد أن الجراثيم, أو تلك الكائنات الدقيقة التي لا نراها بالعين المجردة, لها تاريخ يجاوز تاريخ البشرية نفسها. ويقدّر العلماء أن الجراثيم سواء البكتيريا أو الفيروسات قد قتلت ما يزيد عن 120 مليون إنسان خلال القرن العشرين وحده! ولقد خلق الله عز وجل جسم الإنسان في أحسن صورة, مصداقاً لقوله }وفي أنفسكم أفلا تبصرون{ الذاريات, وزوده بثلاثة خطوط دفاعية تقيه شر تلك الجراثيم. أما خط الدفاع الأول فهو في الجلد, والأنف, والحلق, والأذن والحنجرة. فالجلد هو الحد الفاصل بين أعضاء الجسم الداخلية والوسط الخارجي, وهو غطاء طبيعي للجسم ذو طبقات ثلاث, تمنع اختراق ونفاذ الجراثيم من خلاله, رغم أن ملايين وملايين منها تعيش على سطح هذا الجلد, والذي يعتبر أكبر عضو بجسم الإنسان, إذ تبلغ مساحته بالإنسان البالغ ما يتراوح بين 2-1.5 متر مربع, ويزن 15% تقريباً من وزن الجسم. وفي الأنف والأذن أهداب وشعيرات وإنزيمات خاصة يمكنها قتل تلك الجراثيم, والمعدة بإفرازها الحمضي تلعب دوراً مماثلاً. وإذا تمكنت الميكروبات من اختراق هذا الخط, فهناك الخط الدفاعي الثاني والمتمثل في العدد الهائل من خلايا الدم البيضاء المقاومة وأهمها البلاعم (Phagocytes) والتي تهاجم الجراثيم وتبتلعها, أما إذا سقط خط الدفاع الثاني فليس هناك سوى الجهاز المناعي أو خط الدفاع الثالث والأخير والذي ينتج أجساماً مضادة للقضاء على الجراثيم. ولو تغلب أحد الجراثيم على الجهاز المناعي, فإن الإصابة بالمرض تصبح حتمية, وتعتمد على خطورة الجرثومة, كالفرق مثلاً بين الإصابة بفيروس (الإنفلونزا) وفيروس العوز المناعي البشري (الإيدز), أما إذا تمكن الجسم من التغلب على الجراثيم فلن تحدث الإصابة, بيد أن هناك حالات لا تنجح فيها مقاومة الجسم في قتل الجراثيم بصورة فعالة, وعندها تتحول الإصابة إلى مرض مزمن ويصبح جسم الإنسان حاملاً للميكروب, والذي يبقى ساكناً في انتظار ضعف مناعة هذا الجسم, لينقض عليه مرة أخرى! ليست كل الجراثيم ضارة, بل منها البعض المفيد مثل بعض البكتيريا بأمعاء الإنسان والتي تساعد في تصنيع الفيتامينات (K&B), وبعضها الآخر قد لا يضر ولا ينفع, بينما هناك أيضاً الملايين من الجراثيم التي تتواجد في جسم الإنسان فوق الجلد, وفي الأنف, وفي منطقة الحلق والزور, وفي القناة التناسلية وغيرها من مواضع. وهي علاقة شائكة تلعب فيها سلامة الجسم وكفاءته الدور الأعظم, وهكذا يأتي دور الوعي الصحي للمواطن العربي أينما كان وإدراكه بأهمية الحرص على النظافة, والوقاية; فالمعرفة طريق الوقاية. |
| |
| |
* المكورات العنقودية (Staphylococci) |
| سميت تلك الجراثيم بهذا الإسم لأنها بكتيريا, تبدو عند فحصها مجهرياً على شكل كريات مرتبة كعناقيد العنب, ثنائية, رباعية, ثمانية أو أكثر. وهناك العديد من أنواع وفصائل تلك البكتيريا, غير أن موضوع هذه المقالة هو المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus), وهي بكتيريا مرضية قد تتواجد على جسم الإنسان بشكل سلمي دون أن تسـبب عدوى أو أمراضاً وهي ظاهرة تعرف علمياً بالتعايش البكتيري (Commensalism), وأبرز أماكن تواجدها في تجويف الأنف, ومنطقة الإبطين ومابين الفخذين. وقد يصل معدل تعايشها لدى الأفراد إلى 30%. وعند حدوث أي تشققات أو خدوش بالجلد, فإن هذه البكتيريا قد تتسبب في بعض الالتهابات كالقروح, أو الدمامل وخاصة في المناطق المشعرة, مثل الرأس, والرقبة, وتحت الإبطين ومنطقة العانة, وعادة ما تبقى تلك العدوى والالتهابات موضعية لا تنتقل إلى باقي أعضاء الجسم نظراً لإنزيمات وإفرازات خاصة مصدرها تلك البكتيريا تعمل على حوصلة تلك الالتهابات. وتختلف الأمور تماماً عندما تصيب تلك البكتيريا ذوي المناعة الضعيفة مثل حديثي الولادة, مثل الأطفال, أو كبار السن, أو المرضى بالداء السكري, أو مرضى زراعة الأعضاء, أو المرضى بالسرطان, عندها تتسبب تلك البكتريا في إصابات خطيرة حيث تنفذ إلى الدم وسائر أعضاء الجسم مسببة حدوث تسمم الدم (Septicemia) أو التهابات رئوية, أو التهابات صمامات القلب, أو التهابات بالعظام أو غيرها, وقد تؤدي إلى الوفاة أحياناً. |
|
| |
| |
*المكورات العنقودية الذهبية المقاومة لمضاد الميثيسيللين (MRSA) |
| لقد مثلت المكورات العنقودية الذهبية خطراً طبياً قبل 100 عام, حيث تسببت في موجات وبائية ووفيات هائلة نتيجة التهابات الرئتين, وخراريج المخ, وأمراض السحايا, وتسمم الدم, وغيرها من أمراض قاتلة. ومع اكتشاف عقار البنسللين في الأربعينات من القرن الماضي, اعتقد العلماء بنجاحهم في حسم المعركة, حيث انحسر خطر تلك البكتيريا أو كاد, غير أنه وقبل مرور 5 أعوام على استعمال البنسللين اكتشف العلماء أن المكورات الجرثومية قد طورت نفسها وأصبحت قادرة على إفراز إنزيم خاص هو البنيسليناز (Penicillinase) قادر على تكسير البنسيللين ومن بعده أحد أهم مشتقاته وهو الميثيسيللين (Methicillin), وهو مضاد حيوي كانت له المقدرة على مقاومة الإنزيم الذي تفرزه المكورات العنقودية, وكان هذا الاكتشاف بمثابة إنجاز كبير في علاج تلك البكتيريا. في عام 1961, عرف العالم ولأول مرة تلك البكتيريا المقاومة لعقار الميثيسيللين (Methicillin-Resistant Staph. aureus) أو ما يعرف اختصاراً باسم (MRSA). ومنذ ذلك التاريخ, لم يبق مستشفى في العالم خالياً من حالات مشابهة, واختلفت معدلات الإصابة من دولة لأخرى ومن مستشفى لآخر, وكان الاختلاف في المعدلات ملحوظاً, فقد بلغ أحياناً 1% بينما بلغ في مناطق أخرى 50%. وأصبحت تلك البكتيريا مسؤولة عن جائحات وبائية شديدة وموجات مرضية حادة, وخاصة بين مرضى المستشفيات ودور رعاية المسنين. |
|
| |
| |
* لماذا تعتبر البكتيريا MRSA من بكتيريا المستشفيات؟ |
| بالفعل تعتبر البكتيريا MRSA من بكتيريا المستشفيات وخاصة التخصصية منها, وفي وحدات العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة والخدّج (ناقصي النمو), والعناية المركزة للحروق, ووحدات الأمراض الجلدية وأقسام الجراحة, إضافة إلى دور وأجنحة رعاية المرضى كبار السن. ولقد تم مؤخراً اكتشاف حالات مماثلة في المجتمع وخارج إطار المستشفيات. وهناك بعضاً من الأمور الواجب الإلمام بها لفهم تلك العلاقة بين البكتيريا والمستشفيات; -
تصيب هذه البكتيريا المرضى قليلي المناعة والضعفاء, وهؤلاء عادة ما يمكثون بالمستشفيات فترات طويلة نظراً لطبيعة أمراضهم, يقابل ذلك وجود المرضى الآخرين وكذلك العاملين من الهيئة الطبية والتمريضية, وكلا الفئتين من الممكن أن تكون حاملة لتلك البكتيريا, والتي تعيش في جسم المريض في تجويف الأنف, أو منطقة الإبطين أو ما بين الفخذين وعلى الجلد بوجه عام, ولعل هذا ما يفسر سهولة عدوى المرضى قليلي المناعة عند رعايتهم أو ملامستهم للآخرين.
-
هناك فئات من المرضى يفتقدون إلى خطوط الدفاع الطبيعية, فمرضى الحروق, وبعد تدمير طبقة الجلد في مناطق من الجسم, يصبحون عرضة لنفاذ البكتيريا إلى أنسجة أجسامهم مباشرة, ومرضى الداء السكري أو كبار السن أو المواليد عادة ما يعانون من فقد جزئي لكفاءة الكريات البيضاء (Leucocytes) والمخصصة لمهاجمة البكتيريا وربما أيضاً الضعف المناعي, أما مرضى السرطان والعديد من الأمراض المزمنة فهم بالتأكيد قليلي المناعة وتلعب بعض الأدوية المستخدمة في علاجهم دوراً في إضعاف مقاومتهم للعدوى.
-
يتفق الأطباء على أن كثرة وسوء استخدام المضادات الحيوية المختلفة, قد كان له دوراً سلبياً للغاية, وساهم في زيادة مقاومة تلك البكتيريا للمضادات الحيوية, ويشمل ذلك الاستخدام غير المناسب للمضادات الحيوية الموضعية في صورة مراهم أو كريمات (رهيمات).
|
|
إذن فبيئة المستشفى سواء بمرضاها أو بالعاملين بها تمثل بيئة مناسبة لنشاط تلك البكتيريا. |
|
| |
| |
*الإجراءات الصحية الاحترازية لمواجهة ظاهرة البكتيريا MRSA |
| يعتبر ظهور وانتشار حالات العدوى بالبكتيريا MRSA في المستشفيات من الظواهر المقلقة, وتجابه بحيطة وحذر شديدين خاصة في أوساط المرضى قليلي المناعة. وهناك إجراءات دولية مطبقة بالدول المتقدمة طبياً ـ ومن بينها دولة الكويت, وهي; -
التعرف على المرضى المصابين بالبكتيريا العنقودية الذهبية سواء بعدوى حقيقية أو كحالات تعايش, وهناك فحوصات دورية لهؤلاء المرضى, ويشمل ذلك العاملين بالمستشفيات من الهيئة التمريضية وغيرها عند التفشي الحاد للإصابة, أو الموجات الوبائية.
-
عزل المرضى المصابين بالبكتيريا MRSA في غرف خاصة, مع استخدام تقنيات طبية بالغة الدقة في النظافة والتعامل مع هؤلاء المرضى, أما إذا كان المصاب من العاملين بالهيئة الطبية, فإنه يعفى من العمل حتى يتم علاجه والتأكد من خلوه من البكتيريا.يتلقى هؤلاء المرضى علاجاً خاصاً للقضاء على هذه البكتيريا, ولايسمح باختلاطهم بباقي المرضى أو خروجهم من المستشفيات قبل إتمام علاجهم.
-
تطبيق السبل الوقائية للحد من انتشار العدوى سواء من خلال الاستخدام الموسع للأدوات وحيدة الإستعمال (النبوذة:Disposable) كالقفازات والملابس الواقية والقثاطر وأدوات الغيار, أو التعقيم الكافي للأسرّة, والغيارات, وملابس المرضى ومرافق المستشفى بصورة عامة.
-
توعية المجتمع بصورة عامة والأطباء بصورة خاصة بمخاطر سوء استخدام المضادات الحيوية, خاصة وأن بعض الدول لا تطبق إجراءات صحية كافية في هذا الصدد, وعلى الرغم من أن السلطات الصحية الكويتية لاتسمح بصرف المضادات الحيوية إلا بناء على وصفات طبية, إلا أن الأمر يستدعي بالفعل مزيداً من توعية الأطباء بهذه المخاطر وربما إجراءات أكثر حسماً لمواجهة هذه الظاهرة.
|
| |
| |
* ماهو دور المواطن في الوقاية؟ |
| -
النظافة الشخصية وخاصة نظافة الجلد في مناطق تواجد البكتيريا, والحرص على سلامة الفم, ومنطقة الحلق والزور. وعلينا بذل جهود مضاعفة عند رعاية الأطفال حديثي الولادة, وكبار السن بالمنازل, وذلك يستدعي نظافة اليدين والملابس وكافة الأدوات التي تلامسهم, إضافة إلى نظافتهم الشخصية بالطبع.
-
إذا كنت مريضاً بالمستشفى, فمن الضروري ألا تختلط بالمرضى الآخرين دون ضرورة, وعلى الزوار مراعاة الإجراءات الصحية بالمستشفى; ويعني ذلك عدم إحضار ملابس أو أغطية من المنزل, والتقليل من ملامسة المرضى بصورة عامة لأن بعضاً من هؤلاء الزوار قد يكونوا حاملين للبكتيريا.
-
إذا كنت مصاباً بأمراض جلدية مثل الهربس (Herpes) أو الدمامل والخراريج, أو التهابات منابت الشعر, أو التهابات الجروح, فذلك يستدعي بالضرورة المبادرة بطلب المشورة الطبية, وعدم استخدام أية مضادات حيوية موضعية بصورة ذاتية وإنما فقط طبقاً لما يقرره الطبيب المعالج, وعلى هؤلاء المرضى الحرص على عدم استخدام الأدوات الشخصية للآخرين مثل المناشف, والشراشف, وفرش الأسنان, وأمواس الحلاقة أو الفرش وأمشاط الشعر وغيرها, وهي إجراءات سهلة وبالغة الأهمية في الوقت نفسه.
-
يمثل فحص الخدم والمربيات ضرورة هامة, خاصة إذا كانوا مسؤولين عن رعاية المواليد أو مرضى بأمراض مزمنة أو كبار السن, ويجب التأكد من أنهم غير حاملين للبكتيريا سواء في صورة إصابة أو حالة تعايش, ويمثل فحص الطهاة أيضاً ضرورة صحية لأن هذه البكتيريا قد تتسبب في التسمم الغذائي عند انتقالها إلى الأصحاء في بعض الحالات.
-
الحرص في استخدام المضادات الحيوية, وهو أمر تصعب مناقشته, لأنه من المفترض أن صرف تلك الأدوية لا يتم إلا من خلال وصفات طبية, غير أننا نرصد استخداماً غير مقنن للمضادات الحيوية لعلاج أمراض فيروسية, أو أمراض أخرى لا تجدي في علاجها المضادات الحيوية التي تقتل البكتيريا ولا تؤثر في الفيروسات, في نفس الوقت الذي قد تساهم فيه في زيادة مقاومة البكتيريا وشراستها!
|
| |
| |
*البكتيريا MRSA المقاومة لمضاد الفانكوميسين (VMRSA): |
| بعد ظهور المكورات العنقودية الذهبية المقاومة لمضاد الميثيسيللين (MRSA), نجح العلماء في القضاء عليها بواسطة مضاد حيوي آخر وهو الفانكوميسين (Vancomycin) ومضاد آخر هو التيكوبلانين وهما الوحيدان القادران على ذلك, إلا أنه في مايو 1996 أعلنت اليابان عن ظهور بكتيريا عنقودية مقاومة لمضاد الفانكوميسين وعرفت باسم VMRSA; ومَثَّل الخبر آنذاك صدمة للأطباء, خاصة مع ظهور حالات أخرى بالولايات المتحدة الأمريكية. حتى الآن لم تظهر حالات مماثلة سواء في أوروبا أو الكويت, غير أن هذا الوضع قد لا يدوم طويلاً, ومن المؤكد أن الحاجة قد أصبحت ماسة لتقنين استخدام المضادات الحيوية المتقدمة وخاصة عقار الفانكوميسين وعدم التفريط باستخدام تلك المضادات في حالات بسيطة لا تحتاج إلى استخدامها. إن إدراك الأطباء لمسؤوليتهم, ووعي المواطن بأساليب الوقاية, إضافة إلى جهود السلطات الصحية في المتابعة وتطبيق الإجراءات الاحترازية قد باتت اليوم أكثر إلحاحاً وأهمية وتلعب دوراً متعاظماً ضمن تلك المعركة المستمرة بين المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للمضادات الحيوية وبين الإنسان. |
| |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق